السبت11 رمضان المبارك 1394 هجرية – 6/7/1353 هجرية شمسية
(هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا یَفْتَرُونَ # قُلْ مَن یَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ أَمَّن یَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَیُخْرِجُ الْمَیَّتَ مِنَ الْحَیِّ وَمَن یُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس/ 30-31)
ذكرتُ أن مبحث التوحيد في القرآن الكريم هو أطول بحث فيه. حتى موضوع النبوة بكل تفاصيله وقصصه يستند في مواضع منه إلى التوحيد ورفض الشرك. الآيات في حقل التوحيد فريدة في أسلوبها وعددها، والموضوعات فيه كثيرة نكتفي هنا بتناول بعضها مستشهدين بما جاء في الذكر الحكيم.
وإذ قررنا أن التوحيد عقيدة تستتبعها التزامات ومسؤوليات وتكاليف، فلا بد أن نعرف طبيعة هذه الالتزامات والمسؤوليات والتكاليف. التوحيد لا يتلخّص في الذكر والصلاة، بل إن المجتمع الموحِّد يتضمن أهم المسائل الحياتية مثل الحكومة والاقتصاد والعلاقات الدولية والعلاقات الاجتماعية والحقوق الأساسية. نعتقد أن الالتزام بالتوحيد والمسؤولية الملقاة على عاتق الموحّد تشمل التكاليف الأساسية والحقوق الأساسية للمجتمع. فتركيب المجتمع التوحيدي يختلف عن تركيب المجتمع غير التوحيدي. النظام الاجتماعي والشكل الاجتماعي للمجتمع التوحيدي يتباين بشكل كامل عن المجتمع غير التوحيدي ويتعارض معه.
يمكن أن نعرض التوحيد على شكل ميثاق: «ميثاق التوحيد» ونذكر مواد هذا الميثاق، وأول هذه المواد أن البشر لا يحق لهم أن يعبدوا أي شخص أو أي شيء إلاّ الله. وحين نقول: أي شخص أو أي شيء فإن أبعاد ذلك واسعة.
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَیْكُمْ یَا بَنِی آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّیْطَانَ) والشيطان ليس إبليسًا أو موجودًا خفيًّا لا يبدو للناظرين. الشيطان مفهوم عام للقوى الشرّيرة الخارجة عن وجود الإنسان، وهناك قوة شريرة داخل وجود الإنسان وهي النفس الأمارة بالسوء، كلاهما قوتان مفسدتان شرّيرتان تبعثان على الانحطاط. الشيطان خارج وجودك يُخلّ في مسيرتك. يضرم النار ويزرع الشوك في طريقك. يقف مثل الذئب أو مثل قاطع الطريق، أو يُوجِد الذئب وقاطع الطريق أمامك. هذا هو الشيطان. وسنذكر في مبحث النبوة أن أنبياء الله كان لهم أعداء من شياطين الجن والإنس وسنذكر خصائص هؤلاء الأعداء.
(أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّیْطَانَ) أي أن لا تخضعوا لهذه القوى الشرّيرة. ثمة حديث ربما سمعتموه مني كرارًا عن الإمام محمد بن علي الباقر(ع) فيما رواه الكافي تحت عنوان حديث قدسي جاء فيه: «لأُعذبَنَّ كلَّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلِّ إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعيّة في أعمالها بَرّةً تقية، ولأَعفُوَنَّ عن كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من الله وإن كانت الرعيّة في أنفسها ظالمة مسيئة».
فالطاعة للإمام الجائر الذي لا يستمد ولايته من الله سبحانه هي في حدّ الشرك أو هي الشرك عينه. ذلك لأن الطاعة لإمام عادل من الله يدخل في إطار العبودية، والطاعة لإمام جائر ليس من الله يتنافى مع العبودية، ويتعارض مع الهدف الذي خُلق الإنسان من أجله. يتعارض مع تكامل الإنسان وتعاليه وحريته وكرامته. والحرية مقدّمة للسموّ والرقيّ، وإن انعدمت الحرية فثمة قيود الأسر التي تكبّل الإنسان وتصدّه عن حركته نحو الهدف الإلهي المنشود. مثل نبتة مُنع عنها عامل النموّ فلا تستطيع أن تنمو، وإذ عجزت عن النمو فإنها لا تثمر، وإن فقدت الإثمار لم تَعُدْ لها فائدة. وجود النبتة هدفه الإثمار، وإن لم تثمر فما الفائدة من وجودها؟! والطاعة لغير الله والعبودية لغير الله هو نظير مثل هذه الآفات للإنسان. والقرآن حافل بآيات في هذا الصدد.
دعونا نعد إلى القرآن الكريم، لنملأ قلوبنا بنداء التوحيد، ولقد ابتعدنا عن القرآن الكريم وانشغلنا بأوهام واهية فارغة لا أساس لها مقرونة بخرافات، ولذلك فإن هذا الفراغ لم يقاوم أمام التيارات المادية.
ومن جانب آخر انشغلنا بأبحاث فلسفية جافّة لا روح فيها ولا تأثير ولا مسؤولية في حقل التوحيد. المتكلمون خاضوا بحوثًا كثيرة في التوحيد لكنها لم تُجدِ نفعًا في إقامة مجتمع توحيدي. مئات السنين انشغلوا بدراسات جافّة لها ظاهر جذّاب دون أن يكون لها محتوى وتأثير.. بِمعزل عن الواقع الخارجي. واليوم حين نريد أن نبني حياة جديدة مستمدة من التوحيد لا نرى في تلك البحوث أي ارتباط بالحياة «كالحجر في جنب الإنسان» كما يقال. أما لو عدنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أبعاد بناء المجتمع التوحيدي مرسومة ضمن مئات الآيات بأوضح صورة وأنصعها. عندئذ يتبين معنى الحياة التوحيدية والإنسان الموحد.
إذن فلنتدبر هذا القسم من الآيات التوحيدية.
(وَیَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِیعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِینَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَ شُرَكَآؤُكُمْ فَزَیَّلْنَا بَیْنَهُمْ) الحديث عن يوم القيامة، يتجه الخطاب إلى الذين أشركوا بلغة تهكمية تتضمن لومًا وتقريعًا: أنتم وشركاؤكم، (فَزَیَّلْنَا) أي فرّقنا بينهم. واضح أن هؤلاء الشركاء، أي الذين عُبدوا من دون الله، ليسوا هم هُبل والعُزّى واللات، ولا الأصنام اليونانية أو الهندية، إذ لا تحشر هذه يوم القيامة، بل الحديث عن أُناسٍ اختارهم المشركون ليكونوا شركاء لله. قفوا في مكانكم.. خطاب فيه سخط وتقريع، والهدف منه أن يقول للعرب وللعجم في هذه الدنيا إن هؤلاء الذين اتخذتموهم أربابًا من دون الله سيكون مصيرهم على هذا النحو يوم القيامة.
(وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِیَّانَا تَعْبُدُونَ) مشهد مواجهة بين فريقين. هؤلاء الشركاء يدافعون عن أنفسهم وكأنهم متهمون، يحاولون أن يبرّئوا أنفسهم. وحديثهم يدل على أن التابعين يقولون لهم: نحن عبدناكم وكان ذلك سبب ما نزل بنا من كارثة، والمعبودون يجيبونهم بجفاء ويتبرأون منهم (مَّا كُنتُمْ إِیَّانَا تَعْبُدُونَ # فَكَفَى بِاللهِ شَهِیدًا بَیْنَنَا وَ بَیْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِینَ)، يكفي أن يكون الله شهيدًا بيننا نحن الشركاء وأنتم المشركون، إذ كنا نحن غافلون عن عبادتكم إيانا. (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) هناك تُختبر النفوس عمّا فعلت، ورُدّ الجميع إلى الله فهو المولى الحق لا غيره.
(وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا یَفْتَرُونَ) كانوا يفترون الأعذار ويختلقون الأدلة لتبرير عبادتهم لما سوى الله. وحين يأتي يوم القيامة يرون أن هذه الأعذار وهذه الأدلة باطلة واهية. وقد يكون معنى هذا المقطع من الآية أن هؤلاء الذين كانوا يستظهرون بهم ويعتبرونهم سندًا لهم في الدنيا.. هؤلاء الذين كانوا يعبدونهم ويطيعونهم كي يكونوا لهم ظهيرًا، قد تبين أنهم لا يُجدون نفعًا ولا يرفعون عنهم وزرًا.
انظروا إلى طريقة القرآن في الاستدلال. لا يعمد أحيانًا إلى تقديم الدليل مباشرة، بل يوفّر الأرضية للاستدلال العقلي. يريد سبحانه أن يقرّر أن الله وحده يستحق العبودية دون سواه، فيطرح على الإنسان هذا السؤال: (قُلْ مَن یَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ أَمَّن یَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ) مَن يرزقكم المطر من السماء والإنبات من الأرض؟ ومَنْ يملك ما عندكم من قوة السمع وقوة الإبصار. مَنْ أعطاكم هذه القوة، ومَن يستطيع أن يسلبكم هذه القوة؟! وفي الآية إشارة إلى ماعند الإنسان من قوة فهم وتعقّل يستطيع بها أن يجيب على هذا السؤال.
(وَمَن یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ) وخروج الحيّ من الميت له مظاهر مشهودة في حياتنا، أمرأة حامل تتوفى ويخرج وليدها حيًا من أمّه الميتة. يُخرج من الأرض الميتة هذه النباتات الحيّة. ويخرج من المواد الميتة الإنسان الحيّ.. خروج الحيّ من الميت من أجلى مظاهر قدرة ربّ العالمين.
(وَمَن یُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في الكون مالا يحصى من مظاهر التدبير المشهودة.. هذه الجاذبية التي توفّر للإنسان البقاء عليها.. هذه الأرض والجبال والبحار التي أودعت فيها مواهب الحياة.. هذه القدرة الممنوحة للإنسان التي تمكّنه من استثمار هذه المواهب.. هذا النظام المدهش الموجود بين الكواكب.. هذه الفواصل الدقيقة بين القمر والأرض وبين الشمس والأرض.. وبدون هذه الدقة في الفواصل تنعدم الحياة على الأرض سواء زادت هذه الفواصل أم نقصت.
لقد كان الإنسان في عصر صدر الرسالة يدرك جانبًا من هذا التدبير ونحن اليوم بفضل تطور العلوم ندرك المزيد وسندرك المزيد.
(فَسَیَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) لا يمكن لإنسان يرى كل هذا التدبير في الكون ثم ينكر الخالق الـمدبّر. إذن فلماذا لا تتقون ؟ لماذا لا تتجهون في العبودية إليه دون سواه؟ إذا كنتم تقرّون بتدبيره التكويني فلماذا لا تقرون بتدبيره التشريعي. وفي جلسه أخرى كنت أتحدث عن قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِی بِیَدِهِ الْمُلْكُ) ما معنى المُلك؟ يعني أنه هو الذي بيده القوة. أية قوة؟ القوة التكوينية والقوة التشريعية. إنه بيده سبحانه قدرة تصريف هذا الكون وفق سنن وقوانين طبيعية. فلماذا لا تكون بيده قدرة التشريع، لماذا لا تكون بيده قوانين تنظيم الحياة الاجتماعية؟ لماذا لا يكون المحافظ على تنفيذ هذه القوانين في الحياة الاجتماعية مَنْ يراه صالحًا لهذا الأمر. ومَنْ هو وليّ مِنْ قِبل الله؟! لماذا يترك هذا الأمر الحياتي للبشر بكل ما يعتريهم من نقص؟! (فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)؟!
(قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ) هل يوجد بين هؤلاء الذين زعمتم أنهم شركاء لله مَن يهدي إلى الحق؟! ومن الواضح أن هؤلاء الشركاء المذكورين في الآية ليسوا الأصنام الخشبية أو الحجرية. فهذه لا يحتمل أحد أنها تهدي إلى الحق. بل المقصود هذه الأصنام الحية التي بيدها القدرة الدينية أو الدنيوية.. المقصود أمثال شريح القاضي وفرعون في زمانهم أو في كل زمان.
ولا يذكر القرآن جوابهم. ولعل لجاجهم قد أدّى بهم إلى أن يقولوا: نعم، شركاؤنا قادرون أن يهدوا إلى الحق، فيأتي الردّ عليهم (قُلِ اللهُ یَهْدِی لِلْحَقّ) فالله هو خالق البشر ويعلم دقائق الحق وهو القادر على هدايتهم إليه.
(أَفَمَن یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن یُتَّبَعَ أَمَّن لَّا یَهِدِّی إِلَّا أَن یُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَیْفَ تَحْكُمُونَ) هذا سؤال يثير نتيجة طبيعية يمكن فهمها عقليًا. هل الهادي إلى الحق جدير بالعبادة والطاعة، أم الذي لا يستطيع أن يجد طريقه إلاّ أن يأخذ أحد بيده؟ وهنا أيضًا يجري الحديث عن المتبوع الذي لا يستطيع الهداية. هل المقصود به أصنام قريش، أم بقر الهندوس أو نيران المجوس أو تماثيل الكنائس أو أصنام الروم واليونان؟ حتمًا لا، المقصود به ذلك الإنسان الذي يتبعه المشركون، وهو غير قادر على الهداية. هذا الذي يدعي قيادة البشر بينما هو يحتاج إلى من يقوده. القرآن يقرر في الآية هذه الحقيقة وهي إن الله سبحانه هو الذي يستطيع أن يقود الإنسان نحو السعادة، فلماذا أيها الإنسان تفسح المجال لغير الله في دائرة العبودية؟!
الآية ترفض الآلهة المزيفة، ترفض أولئك الأصنام البشرية على مرّ التاريخ، سواء من تلبّس بلباس القدرة الدينية (الأحبار والرهبان) أو من تلبّس بلباس القدرة الدنيوية (الملأ والمترفون).
والإسلام يعرض على أهل الكتاب اقتراحًا برفض القوى المتعملقة التي تنصب نفسها مكان الربوبية:
(قُلْ یَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَ بَیْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَیْئًا وَ لَا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ).
والحمد لله رب العالمين.