القراءة الإحيائية للقرآن الكريم
دعوةالله ورسوله إلى المؤمنين تدور حول الإحياء: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَجِیبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا یُحْیِیكُمْ). وما جاء في القرآن الكريم من تعبير الخروج من الظلمات إلى النور إنما يأتي في سياق الإحياء: (یُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ). ومن أهم مظاهر الحياة هو الحركة التكاملية، ومن نتائج الحركة التكاملية القائمة على أساس الدين: «الحضارة الإسلامية».
الإحيائيون الإسلاميون دعوا الأمة على مرّ التاريخ إلى البناء الحضاري على مستوى متطلبات عصرهم. وها هو صوت الإمام السيد علي الخامنئي يرتفع في العقد الأخير خاصّة للدعوة إلى بناء «الحضارة الإسلامية الحديثة».
وإذا كانت هذه الدعوة قد ارتفعت اليوم عاليًا على لسان هذا العبد الصالح، فإنها كانت ترافقه منذ بدايات تصديه للعمل الإسلامي، فقد كان في خطابه ومواقفه ينطلق من وعي حضاري وحسّ تغييري.
هذه المحاضرات التي نقدمها بالعربيّة تبيّن منطلقاته وهو يخاطب عامة الناس في رمضان 1394هـ (1974م). ونقف عند أهم المحاور الإحيائية في تلك المحاضرات.
التنظير؛
المسلم الذي يواجه ما يموج به عالمنا المعاصر من تيارات فكرية ويريد أن يعرف مكانته بينها، وأن يجيب عن الأسئلة المطروحة على الساحة، يحتاج إلى تنظير يبلور المدرسة الإسلامية في مجالاتها العقائدية والحياتية، وهذا ما فعله الإحيائيون في العصور الأخيرة وقدموا أعمالهم في كتب مستقلة أو محاضرات نخبوية وعامة. والأستاذ المحاضر يشير إلى ضرورة عملية «بلورة المشروع الإسلامي بصورة مدرسة اجتماعية ذات مبادئ منسجمة ومتناسقة، وذات رؤية للحياة الاجتماعية البشرية»(المقدمة).
فالضرورة تتطلب بلورة المشروع الإسلامي، وأيضًا برؤية اجتماعية لا فردية. ثم تقديم ذلك في منظومة فكرية وعملية واحدة، ولذلك يدعو إلى دراسة المسائل الفكرية في الإسلام بصورة مترابطة وبشكل أجزاء من منظومة واحدة» (المقدمة).
ويرى أن أغلب الدراسات لم يعمد أصحابها إلى هذه البلورة في منظومة عملية حياتية إذ إنّ «ما قدّموه لا يتجاوز أن يكون معرفة ذهنية، لأن أبحاثهم بصورة عامة تدور حول قضايا هي بمعزل عن العطاء العملي وخاصة الاجتماعي» (المقدمة).
في عملية التنظير لابد أن يتجه العطاء إلى الخروج من الإطار الذهني والتركيز على مقاصد الإسلام وأهدافه الفردية والاجتماعية، والسبيل إلى تحقيق هذه الأهداف. فالأولوية هي: «الخروج من الإطار الذهني المحض، والتوجه إلى المنظومة الإسلامية باعتبارها مدرسة احتماعية يتعين فيها المسير العملي للأفراد، وخاصة في حياتهم الاجتماعية، والتأكيد في الدراسات النظرية على مشروع الإسلام لحياة البشر وعلى أهداف الإنسان والمجتمع في الحياة، والطريق الذي يحقق هذه الأهداف» (المقدمة).
الفهم الإحيائي للتوحيد؛
لاشك أن التوحيد أول أصول الدين، لكنه بسبب غياب الذهنية الإحيائية الحضارية دخلت فكرة التوحيد في مباحث كلامية جافّة، أو منحرفة بدويّة متخلّفة. من هنا يتصدى الإحيائيون إلى تقديم هذا الأصل الديني المهم على قاعدة عملية تغييرية تتناسب مع هذا الأصل القرآني الهام يقول:
«كل تعبير في القرآن الكريم عن صفات الله سبحانه في سياق التوحيد يتضمن نفي هذه الصفات عن الآلهة المزيفة، كما يتضمن ما ينبغي أن يتحلّى به الموحّدون في حياتهم، فقوله تعالى: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) يعني أن الآلهة المزيفة في غفلة عن أمرها، كما يعني ما يجب أن يتحلّى به الموحدون من وعي وصحوة وبصيرة» (المحاضرة الثامنة).
وبنظرة تغييرية قرآنية للتوحيد يقول: «لو كانت النظرة الكونية التوحيدية هي المهيمنة لما كان طواغيت العالم والمتجبرون يسيطرون على الثروات الطائلة ويسخّرون عباد الله لطاعتهم، ويَدَعون الناسَ يتسابقون لتقبيل أقدامهم، ويرون أنهم خُلقوا ليكونوا سادة والآخرين عبيدًا، خُلقوا ليكونوا سعداء، وغيرهم مخلوقون للبؤس والشقاء» (المحاضرة الثامنة).
ويرى أن التوحيد في إطار الشعور بالمسؤولية هو غير التوحيد في الأذهان الجامدة الخامدة يقول: «أولئك الذين يعيشون على مستوى المسؤولية والالتزام يجب أن يفهموا التوحيد بصورة غير الصورة المرتسمة في أذهان الذين يعيشون حياة البطر وعدم الالتزام. قد يُخيل إلينا أن التوحيد مسألة تعيش في الأذهان دون أن يكون لها أثر في الخارج، ودون أن تكون عامل تأثير في الحياة. بينما التوحيد الذي يدعو إليه الإسلام هو أسمى من أن يكون جوابًا نظريًا على سؤال. التوحيد الإسلامي يعمل على صياغة نظام الحكم والعلاقات الاجتماعية ويوجّه حركة التاريخ، ويرسم الهدف من هذه الحركة، ويقرر مسؤوليات الناس تجاه الله وتجاه بعضهم الآخر، وتجاه سائر مظاهر الطبيعة. ليس التوحيد بالأمر الذي تقول فيه إن الله واحد وليس اثنين وكفى.. إنه يعني أن الحقّ لله وحده في أن يكون مهيمنًا على حياتنا الفردية والاجتماعية» (المحاضرة التاسعة).
ويقول: «حين يسود التوحيد بهذه النظرة في مجتمع من المجتمعات فإنه يقيم ذلك المجتمع في بُناه التحتية والفوقية وفق أصول وقيم محددة. وما أبعد هذا الفهم للتوحيد عن حصر معنى التوحيد بعبارة إن الله واحد وليس اثنين!!» (المحاضرة الحادية عشرة).
الإيمان الواعي؛
الغزو الثقافي للعالم الإسلامي يسعى فيما يسعى إلى زلزلة الإيمان الديني في ساحة معينة من الشعوب المسلمة، أو إلى إثارة التعصّب والتحجّر في ساحات أخرى. آثار هذا الغزو مشهودة في كلا الساحتين ومن الطبيعي أن يتجه الإحيائيون إلى التأكيد على ضرورة الإيمان الواعي القائم على أساس امتلاء الوجدان وتطهير القلب، وأيضًا على أساس من العقلانية والتفكير والبعد عن التحجّر والعصبية العمياء.
يقول الأستاذ المحاضر: «الإيمان لا معنى له إذا كان مثل ماء راكد لا حراك فيه. الإيمان المتزعزع.. الإيمان الذي يتزلزل ويتناقص على أثر هزّة أو نَزَق مراهقة أو غيرها يمكن أن يُقتلع في يوم من الأيام. المؤمن الصادق الحقّ ليس كذلك، إذ إن قلبه يتلقى الكلمة الصادقة، والموعظة الصائبة بتفكّر وتدبّر فيزداد إيمانًا» (المحاضرة الثانية).
ويقول: «لابد من إيمان راسخ قائم على أساس وعي وشعور وإدراك كي يصمد أمام الإغراءات والشبهات». (المحاضرة الثالثة).
ويقول عن القرآن إنه: «يرى أولي الألباب من خلال القيم الكبرى التي تميّز الإنسان، وهي الارتباط بالله سبحانه. في تعريف أولي الألباب يقول سبحانه: (الَّذِینَ یَذْكُرُونَ اللهَ قِیَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)، وليس ذكر الله هنا على طريقة الدراويش، وليس الاكتفاء بلقلقة اللسان، بل هو الذكر الذي يستتبعه الشعور بالمسؤولية في الحياة، ويدفع إلى العمل بهذه المسؤولية» (المحاضرة الثالثة).
ويقول: «وفي سياق الآيات التي تذكر الإيمان القائم على الوعي، ورفض ذلك الإيمان المقرون بالتقليد والتعصب، يذم القرآن أولئك الذين يلغون قدرة تفكيرهم ويرفضون ترك ما ألفوه من نهج حتى ولو كان ذلك النهج لا يقوم على علم ولا على هدى: (وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ یَعْلَمُونَ شَیْئًا وَلاَ یَهْتَدُونَ). هؤلاء هم الرجعيون والمتحجّرون الجامدون القابعون على ما ألفوه من عادات وتقاليد موروثة حتى لو كانت متعارضة مع العلم ومع هداية ربّ العالمين. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا في زمرة المؤمنين» (المحاضرة الثالثة)
ويقول: «الدين الذي جاء به رسول الله(ص) هو دين التعليم والتزكية وتنمية العقول والنفوس: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَكِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) إنه الدين الذي يكافح ما كان عَقَبةً أمام العقل والفهم والوعي. هذا هو الدين.. إنه الصحوة والوعي والفهم والتعقّل لا كما قال بعضهم: «الدين أفيون الشعوب». تخدير الناس وإبعادهم عن قواهم العقلية وعن وعيهم ليس من الدين بشيء» (المحاضرة الرابعة).
ويقول: «خطاب الأنبياء يتجه إلى فكر الناس وعقولهم، وكلّما كان فكر المخاطبين وعقلهم أدقّ كان قبولهم لهذا الخطاب أكثر. ومهمة الأنبياء رفع المستوى الفكري والعقلي للناس، وكل ما يحول دون أداء هذه المهمة فهو يتعارض مع الدين. وأولئك الذين يريدون أن يسيروا في خط متعارض مع الدين يعمدون إلى تجهيل الناس وتحميقهم، وإبعادهم عن مصادر معرفتهم ووعيهم» (المحاضرة الخامسة).
ويقول: «ومعنى (اللهُ وَلِیُّ الَّذِینَ آمَنُوا) أي إنه حليفهم وفي جبهتهم. (یُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُر) أي ينقذهم من ظلمات الجهل، والخرافة، والغرور، والأنظمة المتجبّرة المعادية للإنسان، ومن كل ما يعتبر طامورة معتمة لجوهر وعي الإنسان. ويأخذهم إلى النور.. نور المعرفة والعلم والقيم الإنسانية، وهذا الانتقال من الظلمات إلى النور خاص بالمؤمنين ولا يشمل الكفار الجاحدين وفاقدي الإيمان. لذلك كان المشرك في قلق دائم، وفي اضطراب مستمر، ليس في حياته نور، ولا معرفة حقيقية» (المحاضرة السادسة).
الانفتاح على القرآن ولغة القرآن
الابتعاد عن القرآن الكريم لا يقتصر على الذين أداروا ظهورهم للدين، بل يشمل كثيرًا من القطاعات الدينية التي ابتعدت عن القرآن لأسباب أهمها: إشاعة فكرة أن الإنسان لا يحقّ له أن يفهم القرآن، بل إن هذا الفهم خاص بالمعصوم، وهذا ما شاع في إيران على الأقل، ومن هذه الأسباب الابتعاد عن لغة القرآن، ومن هذه الأسباب أيضًا الانشغال في دراسات دينية جافّة كلامية وفلسفية لا علاقة لها بالواقع المعاش. ومن هنا تأتي دعوة السيد المحاضر إلى الانفتاح على القرآن وعلى اللغة العربية.
يقول: «دعونا نَعُدْ إلى القرآن الكريم، لنملأ قلوبنا بنداء التوحيد، ولقد ابتعدنا عن القرآن الكريم وانشغلنا بأوهام واهية فارغة لا أساس لها مقرونة بخرافات، ولذلك فإن هذا الفراغ لم يقاوم أمام التيارات المادية. ومن جانب آخر انشغلنا بأبحاث فلسفية جافّة لا روح فيها ولا تأثير ولا مسؤولية في حقل التوحيد. المتكلّمون خاضوا بحوثًا كثيرة في التوحيد لكنها لم تُجدِ نفعًا في إقامة مجتمع توحيدي. مئات السنين انشغلوا بدراسات جافّة لها ظاهر جذّاب دون أن يكون لها محتوى وتأثير.. بِمعزل عن الواقع الخارجي» (المحاضرة العاشرة).
ويقول: «قبل أن أدخل في استعراض آيات في التوحيد، أقف عند توصية ذكرتها مرارًا، وأرى ضرورة تكرارها لأهميتها ولشعوري بالمسؤولية إن لم أعد ذكرها، وهي ضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم. ذلك البحر من أيّ النواحي أتيته. اجلسوا على مائدة القرآن، ففيه زاد التوعية والكمال كما يقول أمير المؤمنين في عبارة نهج البلاغة: «ما جالس أحد هذا القرآن إلاّ قام بزيادة أو نقصانٍ، زيادةٍ في هدى أو نقصان في عمىً». أهمية هذه التوصية هي وجود مكائد لإبعاد الناس عن القرآن. ومن تلك هذه التي تقول لا يمكن أن يفهم القرآن إلاّ الأئمة المعصومون (عليهم السلام). هذه «كلمة حقّ يُراد بها باطل» كما قال الإمام امير المؤمنين(ع) في حقّ خوارج نهروان. نعم إن المعصوم بما يتحلّى به من سموّ وارتفاع هو النموذج الأسمى لفهم القرآن، بل إنه قرآن حيّ يمشي على الأرض. ولكن ذلك لا يعني أنني أنا وأنت لا نفهم شيئًا من القرآن، وأن نكون بعيدين عن كتاب الله العزيز. أصحاب هذه المقولة محرومون من فهم القرآن، فلماذا يسعون إلى إبعاد الناس عن فهم القرآن؟! لماذا تمنعون الناس أن ينهلوا من هذا النبع الفيّاض؟! اعلموا أيها الإخوة والأخوات نحن اليوم بحاجة أمسّ إلى القرآن. كما قال رسول الله(ص): «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن»، عليكم بالقرآن حين تخيّم الفتن وتلقي بظلامها على المجتمع، حينما نفتقد الرؤية لمعرفة الجادّة الصحيحة.. حينما لا ترى الأعين ما تكيده لنا عصابات النهب وقطاع الطرق. في هذه الحالة نحو أحوج ما نكون إلى مراجعة القرآن. وذلك لا يتحقق إلاّ بفهمه» (المحاضرة الحادية عشرة)
ويقول: «تعلّموا لغة القرآن.. تعلموا اللغة العربية، وإن تعذّر عليكم فهم العربية فتوسلوا بترجمة معاني القرآن. كونوا بالقرآن مأنوسين ومعه أصدقاء مرافقين. وكل ساعة تمرّ دون أنس بالقرآن هي خسارة في العمر وحسرة» (المحاضرة الحادية عشرة).
الإسلام المحمدي
الإحيائيون يواجهون نظرة سلبية عند فصائل من المجتمع تجاه الإسلام. وحين طغى الفكر المادي بين شباب العالم الإسلامي في الستينات والسبعينات كانت التهمة الموجهة إلى الإسلام هي إنه أفيون الشعوب، وإنه غير قادر على أن يكون مشروعًا للحياة، وإنه يقرّ ظلم الظالمين، وليس بإمكانه أن ينتصر للمظلومين. في زمن إلقاء هذه المحاضرات كان الفكر المادي قد تسرّب حتى إلى بعض الفصائل الإسلامية، فراج الالتقاط بين الماركسية والإسلام. ومن هنا راح الأستاذ المحاضر يدافع عن الإسلام، ويبين وجهه المحمدي الصحيح، وطبيعته المناهضة للظلم والداعية إلى العدالة ورفض التمييز.
يقول: «إن أنصار المدرسة المادية في عصرنا يخالون أن المدرسة المادية أقدر على إدارة العالم وإنقاذه من الظلم والجشع والتمييز. والدين لا يستطيع أن يفعل ذلك. لماذا يصدرون حكمًا كهذا على الدين؟ لأنهم يفهمون الدين بمعناه التقليدي الشائع الموروث من عصر التخلّف، الدين الذي يكتفي بالعادات والتقاليد والطقوس ولا يحرّك ساكنًا في المجتمع، لذلك يقولون عنه إنه أفيون الشعوب. واضح أننا حين نواجه هذا المنطق ليس لنا إلا أن نقول: لو رأيتم دينًا يقرّ على ظلم الظالمين ويساند المستبدين، ولا يهتم بأمر المظلومين ولا يجدي نفعًا للـمسحوقين فارفضوه إنا معكم رافضون. الدين الإلهي له خصائص معينة ومواصفات خاصة، إن توفرت نقبله وإن لم تتوفر نرفضه» (المحاضرة التاسعة).
ويقول: «إسلامنا هو الذي يحارب التمييز والطبقية، ويقسم الثروة بالعدل، ويوفر الفرص والإمكانات المتساوية أمام أفراد المجتمع، ويُعزّ الإنسان الذي كان يعيش في الذلّ وكان يُسخّر لارتكاب ألوان الجرائم من أجل فتات موائد الطواغيت. هذا الإنسان المنحط أعزّه الإسلام وأكرمه، وأكسبه الفضائل الأخلاقية والإنسانية، كل ذلك وفّره في ظل نظام عادل ومتقن» (المحاضرة التاسعة).
ويقول: «لم يكتف رسول الله(ص) بموعظة الناس وبيان الصحيح وغير الصحيح من الأعمال، بل إنه أرسى قواعد نظام اجتماعي مستحكم وفق أصول معينة، ودفع بالناس إلى الحركة في ظل هذا النظام وفي هذا المسير، وبهذا جعل منهم أفرادًا صالحين. وإذا أخذت بنظر الاعتبار هذا الإسلام ثم قلت أيها المادي المعاصر بأنه لا ينسجم مع ما نريد من تحقيق الرقي والعدل والأمن وتأمين احتياجات البشر، فذلك ما لا نقبله منك… ! إذ هو خلاف الإنصاف.. خلاف الإنصاف» (المحاضرة التاسعة).
عطاء التوحيد
التوحيد أهم عنصر تكاملي للفرد والمجتمع، وهو الذي يؤطّر الحياة الإنسانية بكل مرافقها، لكن الذهنية الراكدة حولته إلى ما يتناسب مع حالة الركود والخمود السائدة. وقد مرّت بنا مقتطفات من أقوال الأستاذ المحاضر في هذا الصدد، وفي المحاضرات تفاصيل عن عطاء التوحيد لمعناه القرآني مثل مفهوم تساوي البشر باعتباره نتيجة طبيعية لرفض تعدد الآلهة يقول:
«وجاء الاسلام ليرفض تعدد الآلهة، ويقرر أن البشر مخلوقون من إله واحد.. ومن طينة واحدة، ولهم فطرة واحدة، والآيات الكريمة في هذا الصدد كثيرة نظير قوله تعالى: (یَا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِی خَلَقَكُمْ وَالَّذِینَ مِن قَبْلِكُمْ). فالبشر بأجمعهم من أصل واحد، ويحملون كفاءات تمكّنهم من التكامل والسموّ، لا فرق بينهم في ذلك، اللهم إلاّ المجموعة التي اصطفاها الله سبحانه لهداية البشرية كالأنبياء والأئمة، فهؤلاء الصفوة خارجون من بحثنا، وحديثنا عن عامة أفراد المجتمع» (المحاضرة الثانية عشرة).
وهكذا ما يفرزه التوحيد من رفض التمييز الطبقي. يقول:
«فرص التكامل العلمي والعملي متاحة للجميع. خلافًا للمجتمعات غير التوحيدية حيث الطريق معبّد لفئة ومليء بالأشواك والعقبات لفئة أخرى. وأقف عند عبارة «يا أيها الناس» فالخطاب للبشرية جمعاء بمختلف ألسنتها وألوانها وأقاليمها وانتماءاتها، وأقف عند «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ففيها رفض تام للطبقية، ليست كرامة الإنسان مِنْ نَسبِهِ وحَسَبِهِ ومكانته في مجتمعه، بل من تقواه. بل ــ وهذه ملاحظه دقيقة وهامة ــ حتى المتقون ليست لهم امتيازات بشرية خاصة، المتقي لا يتمتع ــ باعتباره متقيًا ــ بامتيازات مالية أو حقوقية خاصة، فهم مكرمون ومقربون عند الله سبحانه. طبعًا التقوى لها آثار اجتماعية أيضًا، ومن هنا فإن بعض المسؤوليات لا يتولاها إلا أصحاب التقوى» (المحاضرة الثانية عشرة).
وهكذا ما ينتج عن التوحيد من مكافحة الفقر وضيق النظر والانشداد إلى الصغائر.
يقول: «إنّ التوحيد مشروع عظيم وضخم يدخل حياة الإنسان فيؤثر في مجالاته الاقتصادية بإزالة الفقر أو تعديل الثروة، ويدخل في المجال الاجتماعي، فينتج أخلاقية خاصة في التعامل، ويدخل في مجال النظرة إلى الكون والحياة فيجعلها إلهية، ويدخل في دائرة النفس فيخلق منها نفسًا ذات خصائص سامية، مثل التخلص من ضيق النظر، ومن الشعور بالضعف والهزيمة، فلا يرى صاحبها متطلباته محدودة في الأمور المادية، ولا ينشدّ إلى الصغائر، ولا يرى هذه الدنيا هي نهاية الحياة، بل يؤمن بحياة أخرى خالدة، ومن هنا يرى الموت بداية لحياة أخرى، وهذه الرؤية لها الأثر الكبير على حياة الإنسان وسلوكه وتعامله» (المحاضرة الثالثة عشرة).
وهكذا اقتلاع جذور الخوف، وهو من معطيات التوحيد، يقول: «ونقف عند إحدى الخصائص النفسية للتوحيد وهي اقتلاع جذور الخوف من غير الله سبحانه: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِینَ) فالمؤمن الموحّد العارف بقدرة الله تعالى لا يساوره خوف. حين أتأمل في حياة البشرية قديمها وحديثها أرى أن الخوف عامل ضياع دنيا الناس وآخرتهم. الخوف من الفقر يؤدي إلى شحّ النفس وعدم الإنفاق، الخوف من انتهاء أيام العمر والطمع في البقاء لأيام أكثر قد يؤدي إلى فناء حياة كثيرين، وإلى شقاء الحياة البشرية. حين نطالع المآسي والجرائم في حياة البشر، حين ندرس سبب قلة أنصار الحق، وإعراض الناس عن الحقّ حتى بعد أن عرفوه، نرى أن جذور كل ذلك تكمن غالبًا في الخوف» (المحاضرة الثالثة عشرة).
الأمل في المستقبل
من ميزات الإحيائيين إزالة روح اليأس والهزيمة من نفوس المؤمنين. الحاجة إلى الأمل بالمستقبل والثقة بالله حاجة الرساليين في كل زمان ومكان، وهو مورد تأكيد القرآن الكريم في مواضع عديدة. لكن الحاجة إليه ازدادت بشدّة في ظروف الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي، وهزيمة المسلمين نفسيًا وعسكريًا واقتصاديًا أمام الغزاة. ومن هنا نجد الأستاذ المحاضر يؤكد في كل مناسبة على غرس روح الأمل في النفوس. يقول: «هذا مبدأ إسلامي يقضي أن يكون مصير البشرية إلى خير، لماذا؟ لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وفق موازين الحق، وخلق الإنسان لينشد الحق بفطرته. والإنسان بما عنده من إرادة يجب أن يتحرك وفق ما تقتضيه فطرته ليصل إلى ذلك المقصد» (المحاضرة العشرون).
ولا يخالنّ أحد أن الأنبياء فشلوا في أداء مهمتهم الرسالية. إذ هذا الفهم لمصير الأنبياء هو ما يردده المتقاعسون لتبرير تقاعسهم وقعودهم. يذكر الأستاذ المحاضر آية ويعلق عليها يقول:
«القرآن الكريم يعلمنا أن كل واحدة من النبوّات كان لها دور وفاعلية في سلسلة النبوات، إضافة إلى أنها دفعت بالبشرية خطوة إلى الأمام، وهذا ما تؤيده وثائق التاريخ. وهكذا أتباع الأنبياء يستطيعون أن يحققوا النجاحات بشكل مؤكد، ولكن بشرطين وإذا تحقق هذان الشرطان فالنصر حتمي، وليس من الضروري أن يتحقق هذا الانتصار بمعجزة. وما هما الشرطان؟ الأول: الإيمان، أي العقيدة الواعية، إيمان مقرون بالتزام، ومقرون بالسعي والحركة. الثاني: الصبر، ويعني المقاومة، والثبات في الساحة، وعدم ترك الميدان في اللحظات الحساسة والخطرة» (المحاضرة العشرون).
ثم يذكر ما تحمله ذاكرته من كلام في تاريخنا الحديث يقول:
«أذكر بالمناسبة كلام شخص من تاريخنا الحديث كان يخاطب أتباعه في الحركة الدستورية الإيرانية ويقول لهم: ناضلوا، وإن اشتدت عليكم الأمور ناضلوا أيضًا، وإن أيقنتم بالفشل الحتمي واصلوا النضال، عندئذ سوف يُكتب لكم النصر، هذا كلام صحيح. حين يبقى الأمل بالنصر في كل أحوال الشدّة فإن النصر عاقبة الأمور، أما إذا دبّ اليأس فثمة الفشل والهزيمة» (المحاضرة العشرون).
ويخرج بنتيجة لها علاقة بواقعنا الراهن يقول:
«لا يخالنَّ المسلمون أن التخلّف والفقر والذلّ مقرون بهم ومطبوع عليهم ولا يمكن أن يفارقهم، وأن القوى المتجبّرة في العالم قد قُدّر لها أن تبقى مسيطرة على رقاب الأمة تمتص دماءهم وتستنزف ثرواتهم!! لا، لو أن الملايين من أبناء الأمة الإسلامية قد التزموا بالإيمان وتحلّوا بالصبر لكانت الغلبة لهم. هذه هي توصية القرآن الكريم للمسلمين في كل زمان ومكان». (المحاضرة العشرون).
الفهم الإحيائي للولاية
الولاية مفهوم إسلامي قرآني، فالله ولي الذين آمنوا، ورسله، وكذلك مَنْ لهم صفات تؤهلهم لولاية أمر المسلمين. وأتباع مدرسة أهل البيت يرون في الأئمة الاثني عشر النموذج الأسمى للولاية، لكن هذا المفهوم الهام الذي يرتبط بمصير المجتمع الإسلامي وبرسالية مسيرته وتوجهه الحضاري قد لفّه الغموض بل التحريف، ولذلك يتصدّى السيد المحاضر لتوضيح أبعاد الولاية وعطائها يقول:
«إذن للولاية بُعدان داخلي يرتبط بالأمة الإسلامية في داخل مجتمعاتها وبُعد خارجي يرتبط بعلاقة الأمة الإسلامية بالمجتمعات الأخرى.
على الصعيد الداخلي لابدّ من رصّ الصفوف والحذر من التفرّق. ولو حدث اختلاف بين فريقين داخل الأمة فالقرآن يأمر بالإسراع في الإصلاح بينهما. ولو أصرّ أحد الفريقين في لجاجته وتعنّته ورفض الرضوخ إلى كلمة الحقّ فعلى العالم الإسلامي أن يعيد هذا الفريق إلى صوابه ولو بالقوّة والقتال.
يقول القرآن الكريم: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّى تَفِیءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ). هذا أمر الله سبحانه من أجل صيانة وحدة الأمة الإسلامية. أما في بعد علاقات الأمة الإسلامية بغيرها، فلا بد من تنظيمها بصورة تحافظ على استقلال الأمة وصيانة شخصيتها وكرامتها وهويتها. وكلّ ارتباط خارجي يسيء إلى هذه المحافظة فهو مرفوض» (المحاضرة الرابعة والعشرون).
والولاية التي يستحق صاحبها أن يكون من الفائزين في الدنيا والآخرة ليست الاكتفاء بعقد مجالس إحياء ذكر أهل البيت وبيان فضائلهم. فهذا ما يصرّ عليه الجاهلون والمغرضون، وهذا ما يزري بمفهوم الولاية يقول:
«عقد مجالس لإحياء ذكر أهل البيت وبيان فضائلهم لا يخالفه عاقل، من الشيعة ولا من السنة بل ولا من غير المسلمين. كل من يعرفهم يقرّ بعظمتهم، فهم الرهط الكريم الذي قدّموا كل ما لديهم حتى أرواحهم في سبيل نشر العدل ومقارعة الظلم والدفاع عن دين الله وكرامة الإنسان. لو ذهبتم إلى أوربا وبيّنتم هناك للناس شخصية الإمام أمير المؤمنين وحياته لرأيتم احترام المخاطبين وإعجابهم بهذه الشخصية ولَوَجدتموهم ينحنون إجلالاً له. إذن الاكتفاء باحترام أهل البيت لا يمكن أن يكون الولاية التي يستحق الشخص بموجبها الجنة. من المؤسف أن نفرًا يطرحون عن غرض أو جهل موضوع الولاية بشكل سطحي، ولا يكتفون بذلك بل يحاربون الذين يقدّمون الفهم الصحيح للولاية، وللعاملين على طريق الولاية. حصر الولاية في نطاق محدود وضيّق لا يليق بهذا المبدأ الإسلامي الهام» (المحاضرة الخامسة والعشرون).
وعن عطاء الولاية يرى أنه إحياء الأمة، وتنمية كفاءاتها الإنسانية وإقامة المجتمع الصالح والحكم الصالح يقول:
«طيب، يبقى السؤال عن العطاء الذي يمكن أن تقدمه الولاية للمجتمع. في كلمة واحدة نجيب: إنه انتقال من الموت إلى الحياة. تصوروا الجسم الميت الذي فيه الدماغ والعين والجهاز الهضمي والدورة الدموية ولكن كلها لا تعمل، لماذا؟ لأن هذا الجسم يفتقد الروح. وهكذا المجتمع الذي يفتقد الولاية، فيه كفاءات لكنها باطلة مهدورة. له قوى مفكرة لكنها تُسخّر فكرها للإفساد وللقتل ولإحراق الحرث والنسل. لاحظتم في التاريخ الإسلامي حينما خبت شعلة الولاية ماذا حدث. ولقد حذّرت فاطمة الزهراء سلام الله عليها مما سينزل بالمجتمع إذا ابتعد عن الولاية، لكن آذان المجتمع لم تكن تستوعب هذا التحذير، وهذا التحذير قائم إلى يومنا هذا. المجتمع صاحب الولاية مجتمع تنمو فيه الكفاءات الإنسانية، وكل شيء فيه ينحو إلى السموّ والكمال والرقيّ. ويسير المجتمع بتوجيه من الولي الحاكم على طريق الله، وتُقسم الثروة فيه تقسيمًا عادلاً، وتتجه الطاقات فيه إلى الاستزادة من المعروف واستئصال المنكر وكل ما يسيء إلى المجتمع» (المحاضرة السادسة والعشرون).
ثم يذكر ما جرّه الابتعاد عن المفهوم الصحيح للولاية من مآس في تاريخ المسلمين وتاريخ الحضارة الإسلامية يقول:
«الذي يركز عليه الإسلام هو أن زمام أمور الناس يجب أن لا تقع بيد من يسوق الناس إلى جهنم. لقد شهد التاريخ الإسلامي استيلاء أفراد على السلطة أذاقوا الناس سوء العذاب، وعاثوا في الأرض الفساد. كل هذا حدث في جوٍّ من غياب القيم التي قرّرها الله سبحانه للحاكم في المجتمع الإسلامي. رأينا في التاريخ كم عبث بعض الحكام بأموال المسلمين وأرواحهم! أنفقوا بيت المال على قصورهم ولهوهم وحفلات زواجهم» (المحاضرة السادسة والعشرون).
وعن آثار الابتعاد عن الولاية على مسيرة الحضارة يقول:
«تعرفون أن الاسلام فجّر طاقات الأمة وأيقظ كفاءاتها وقواها الفكرية فسجلت أروع انتصارات في حقل العلوم والمعارف، واقتبسوا علوم زمانهم وترجموها، وذلك ما بعث علماء الغرب أن يذكروا بإعجاب شديد ما حققه المسلمون من تقدم، من أمثال «غوستاف لوبون» الفرنسي الذي درس الحضارة الإسلامية في قرون ازدهارها، ومثل «آدم متز» الذي كتب عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع، ولكن الذي يبعث على الأسى هو أن المجتمع الإسلامي في عصور الازدهار الحضاري كان خاضعًا لخلافة وراثية استبدادية بعيدة عن القيم الإسلامية. ولذلك كان نصيب المجتمع الإسلامي من هذا التطور العلمي ضعيفًا، ونرى التاريخ ينقل لنا الأعاجيب من التمييز الطبقي في ذلك العصر. ولهذا السبب أيضًا أفلت مسيرة التقدم العلمي والفكري، وأوصلت العالم الإسلامي إلى ما نشاهده اليوم. لو كانت ولاية الأمة بيد الصالحين، لو كان النموج العَلَوي هو السائد في المجتمع، لو كانت ولاية الأمر بيد أمثال الإمام الصادق، لكان عطاء التطور العلمي يعمّ المجتمع وينقذه من عوامل التخلّف كلّها، وَلَكُنّا ننعم حتى اليوم بذلك العطاء.
ثم هذه الحضارة الغربية المعاصرة، قد حققت انتصارات في حقل العلوم والصناعة والتطوير لكنها كانت ولا تزال في ظل الأنظمة الحاكمة التي لا تؤمن بقيم إنسانية وأخلاقية، فقادت الغرب بل والعالم إلى حروب ودماء ودموع، وإلى تمييز عرقي وطبقي فظيع، ولم يستطع ذاك التقدم العلمي أن ينعش الحياة الإنسانية والفضائل الخلقية» (المحاضرة الرابعة العشرون).
تصحيح المفاهيم
بسبب انعزال الإسلام عن الحياة لقرون، وفرض حالة التخلف على المسلمين عشعشت في ذهن المسلمين مفاهيم خاطئة. وتحولت عناصر الحركة والدفع والتكامل في الإسلام إلى عناصر ركود وتكاسل وارتخاء. من هذه المفاهيم:
الرحمة: وهذا المفهوم له قيمته الكبرى في منظومة الحضارة الإسلامية، لكنه تبدل في الذهنية الراكدة إلى انتظار هذه الرحمة لتهبط من السماء، لإنقاذ المسلمين مما يعانونه. يرفض الأستاذ المحاضر هذه النظرة، ويبين المعنى الواعي التغييري للرحمة يقول:
(أَطِیعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) رحمة الله لا تنزل على الأمة إلاّ حين تلتزم بالرسالة، وتؤدي ما عليها من واجبات. ملايين المسلمين يرون بأعينهم ما يحلّ ببلدانهم من تدمير ونهب وسيطرة وإذلال، ثم يجلسون منتظرين رحمة ربّ العالمين!! لا، مثل هذا الانتظار للرحمة مخالف لسنة ربّ العالمين في الكون» (المحاضرة الأولى).
ويقول: «حين تسير الأمة على طريق سُموّها وكمالها، وتكسر قيود أسرها، عندئذ تشملها رحمة ربّ العالمين: (أَطِیعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)» (المحاضرة الأولى).
ومنها الغفران: الذهنية الراكدة تنتظر غفران الله بالدعاء والتضرّع فقط، غير أن الذهنية المتحركة ترى أن الذنب تأخّرٌ عن مسيرة التكامل، ولابدّ من حثّ الخطى لتلافي هذا التأخّر، إنه جرح لابدّ من معالجته بالجدّ والاجتهاد. يقول: «إن الغفران يعني التئام جرح وملء فراغ» (المحاضرة الأولى).
ويقول: «ما معنى الغفران؟ إنه يعني معالجة هذا الجرح وإزالة آثاره. هذا هو الغفران. ويتم هذا بتلافي ما أنزله الذنب في الروح من انتكاس، ودفعها نحو السموّ والارتفاع» (المحاضرة الأولى).
ومنها الخوف من الله: الخوف من الله ليس من نوع الخائف من جرمه حين يقف أمام القضاء. فهذا الخوف لا ينتج كمالاً بل إنه كما يقول الأستاذ المحاضر: «من نوع آخر، إنه خوف ناتج عن معرفة. حين يقف الإنسان أمام ذات عظيمة وحقيقة جليلة فإنه يصاب بالرهبة، طبيعة الإنسان تقتضي أن يقف مرهوبًا أمام الموجود العظيم. هنا الرهبة ليست خوفًا، قد لا يعتريه أي خوف من ارتكاب ذنب، لكنها الرهبة الناتجة عن إحساس بالعظمة وشعور بالصِغَر أمام تلك العظمة» (المحاضرة الثانية).
وبكاء الأولياء أمام الله ليس تظاهرًا ولا تعليمًا للآخرين! بل هو الرهبة والخشوع يقول:
«ليس الأمر كما يقول بعض الجاهلين: إن بكاء هؤلاء العظام وتضرعهم إنّما هو من أجل أن يعلّمونا البكاء والتضرّع!! فهو ليس عند هؤلاء الجهلة بكاء حقيقيًا، بل يتظاهرون بذلك كي يعلّمونا بذلك!! هذا خطأ وجهل، هؤلاء العظام ارتفعوا في معرفة الله حتى امتلأت قلوبهم بالرهبة والخشوع والخضوع» (المحاضرة الثانية).
ومنها التوكل: التوكل في الذهنية الجامدة هو إيكال الأمر إلى عامل غيبي. وهذا هو التواكل غير أن التوكل في المفهوم القرآني له عطاؤه الحركي. يقول:
«التوكل هو الاعتماد على الله وعقد الأمل عليه في كل الأحوال. والتوكل بهذه الصورة يبعد مفهومَه عن حالة التخدير ويجعل منه عامل حركة واندفاع» (المحاضرة الثانية).
ويقول عن الإنسان الذي يواجه طريقًا مغلقًا، فهو: «إما أن ينجرف مع ظروف الواقع المفروض، وإما أن ينهي حياته بالانتحار. لكن الإنسان السائر على طريق الله ينفتح أمامه، حين يواجه طريقًا مغلقًا، سبيلٌ آخر. ما هذا السبيل؟ إنه: التوكل». (المحاضرة الثانية).
ومنها الشفاعة: الشفاعة في الذهنية الراكدة هي دخول المذنب الجنة بواسطة شفاعة الأنبياء والأولياء يوم القيامة، وهذا يتعارض مع مفهوم العمل، ويشجع على الكسل. يقول:
«ثمة أفكار موهومة أشيعت في أوساطنا، ولقيت ترحيبًا من النفوس التي تميل إلى البطر والراحة والاسترخاء، وتتجه هذه الأفكار إلى التبشير بالجنة دونما عمل وفق معادلات خاطئة. على سبيل المثال ثمة تفسير خاطئ لمعنى الشفاعة يغري الإنسان بالكسل وترك العمل، بينما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يؤكدون في مواقف كثيرة أن شفاعتنا لا تُنال إلا بالعمل» (المحاضرة الرابعة).
ومنها الطمأنينة والسكينة والأمن: يمكن أن يكون لها في الذهنية الراكدة مفهوم لا ينسجم مع المنظومة الفكريةللإسلام، فيتصدى الأستاذ المحاضر لتصحيح المفاهيم بشأن هذه المفردات يقول بعد أن يورد أمثلة على معنى الاطمئنان: «أردت من هذه الأمثلة أن أبين لكم معنى الاطمئنان ومعنى سكينة القلب والنفس. إنه لا يعني الخلود إلى الراحة والبطر» ويقول: «الطمأنينة هي ثبات روح الإنسان وثبات قلبه» وعن السكينة يقول: «والسكينة أيضًا لا تعني السكون وعدم الحركة، بل تثبيت القلب لمواصلة الطريق» وعن الأمن يقول: «الأمن هنا يعني الأمن الروحي، يعني أن لا يساور الإنسان تزلزل وقلق وخوف واضطراب» (المحاضرة السابعة).
ومنها العقل والدين: اهتمّ الإحيائيون بالتركيز على عدم وجود انفصال بين العقل والدين. وهذا الاهتمام يأتي من فكرة قديمة جديدة بأن الناس اثنان: ذو عقل بلا دين وآخر عاقل لا دين له!! وفي هذا الموضوع يقول الأستاذ المحاضر:
«الدين إذن لم يأت ليكون بديلًا عن العقل، وناسخًا له، بل لهداية العقل وإعانته، حين يكون إلى جانب العقل الأهواء والأطماع والمخاوف والأغراض الشخصية فإنّ العقل لا يستطيع أن يؤدي دوره. والدين يأتي ليجعل العقل قادرًا على الرؤية الصحيحة. الحثّ على التعقل والتفكير كثير في القرآن الكريم: (أفلا تعقلون) (أفلا تتفكرون) والإشادة بأرباب العقول كثيرة أيضًا: (إِنَّ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ لآیَاتٍ لِّأُوْلِی الألْبَابِ) الروايات مستفيضة بعبارة: «إن لله على الناس حُجّتين» أي النبي والعقل. فالإنسان بدون وحي لا يستطيع أن يحقق ما يصبو إليه من سعادة. الوحي يعمل على تقوية العقل والفكر.. يزكيهما.. يهذّبهما.. يعاضدهما. هذه هي وظيفة الوحي.. وهذه هي الحكمة من النبوة. هذا هو عطاء يد الغيب، لا كما يخال المتقاعسون الذين يكلون ما يجب أن يقوم به الناس إلى الغيب.. يكلون إلى الغيب مسؤولية إصلاح الأوضاع الاقتصادية وإزالة الفقر من المجتمع، وينسبون إلى الغيب ما يرونه من تردّي الأوضاع الاقتصادية، بينما كان من المفروض أن ينسبوها إلى الذين (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّینَ # وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِینَ)»(المحاضرة الرابعة عشرة).
ومنها مهمة الأنبياء: فترة الركود خلقت تصورًا خاطئًا عن مهمة الأنبياء يتلخّص في إصلاح مَنْ يمكن إصلاحه، وحصر مهمتهم بالأعمال الفردية، لتبرير حالة التقاعس لدى بعض من يدّعون أنهم يسيرون على طريق الأنبياء. وهذا ما يتناوله الأستاذ المحاضر في جلسات متعددة. من ذلك قوله:
«التصور السائد في الأذهان تجاه النبي هو أنه إنسان يأتي إلى المجتمع باعتباره حكيمًا عالمًا يقبع في مكان لينهل الناس من فيض علمه وحكمته. يتصورون أن إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله حين مارس دوره في مجتمعه فإنه اتخذ بيتًا مناسبًا، وخصص ساعات لمقابلة الناس المؤمنين منهم وغير المؤمنين. وفي هذه المقابلات يقدم إلى الناس استدلالات بوجود الله وبضرورة الخوف من الله، فيصلح مَنْ يصلح من الناس ثم يغادر الدنيا بعد أن أدى مهمته!! لا، ليس النبي بهذه الصورة، حين يُبعث إلى مجتمعه تثور روحه ويغلي صدره، فيصبح إنسانًا آخر غير الذي كان عليه، ثم يتوجه إلى مجتمعه فيراه قائمًا على أساس مغلوط، ويرى تصميمه المعماري مخالفًا لتصميم الفطرة الإنسانية، ويرى ضرورة تغييره. يرى أن مجتمعه فيه التمييز الطبقي وفيه الظلم، وفيه التعسف، ولابدّ أن يتغير إلى مجتمع توحيدي» (المحاضرة السادسة عشرة).
ويقول: «هدف الأنبياء في المجتمعات التي بُعثوا فيها هو تبديل المجتمع من حالته المنحرفة، من حالته غير المتعادلة، من حالة الظلم والجور إلى مجتمع متوازن متعادل عادل خال من مظاهر القبح ومفعم بمظاهر الجمال» (المحاضرة السادسة عشرة).
ويقول: «الأنبياء والسائرون على طريقهم كان لهم جواب واحد في كيفية تهذيب الإنسان وتزكيته وفق الأسلوب الإلهي الصحيح. وهو: إيجاد الجوّ الاجتماعي المناسب والملائم للتربية» (المحاضرة السابعة عشرة).
ويقول: «العمل الفردي في الإصلاح يؤدي إلى استقامة فرد أو فردين، والعمل الاجتماعي يؤدي إلى إصلاح مجتمع بملايين أفراده وإلى إصلاح أجيال متوالية» (المحاضرة السابعة عشرة).
ويقول: «ما نفهمه من القرآن الكريم أن سيرة الأنبياء في صناعة الإنسان هي خلق المجتمع الإلهي.. المجتمع التوحيدي.. خلق الجوّ المساعد على دخول الناس في دين الله أفواجًا: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ # وَرَأَیْتَ النَّاسَ یَدْخُلُونَ فِی دِینِ اللهِ أَفوَاجًا)» (المحاضرة السابعة عشرة).
هذه بعض المحاور الإحيائية في محاضرات السيد الأستاذ، أردنا بها أن نسلّط الضوء على المقصد الإحيائي الحضاري للمـحاضرات، وأن نفتح أمام القارئ الكريم نافذة يطل من خلالها على سائر المحاور. فهي إضافة إلى قيمتها التاريخية في مسيرة الفكر الإسلامي بإيران تقدم دروسًا نحن بأمس الحاجة إليها اليوم.