الجلسة الخامسة: الإيمان والالتزام بالمسؤوليات

6 رمضان المبارك 1394 هجرية – 1/7/1353 هجرية شمسية

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِینَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِیَحْكُمَ بَیْنَهُمْ أَن یَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ # وَمَن یُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَخْشَ اللهَ وَ یَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور/ 51-52)

ثمة مسألة هامة في حقل الإيمان هي إن التزام الفرد المؤمن بإيمانه ثابت لا يتغير بتغيّر هوى ذلك الفرد، أي أن لا يكون إيمانه مرتبطًا بمصالحه الشخصية الضيقة، يلتزم بالإيمان متى ما اقتضت تلك المصلحة أن يكون مؤمنًا، ومتى ما تعارضت مصالحه مع الإيمان يتخلّى عن الالتزام.
وهنا نشير إلى أن المقصود بالمصلحة الذاتية هي المصلحة العدوانية التي تدفع الإنسان إلى أن يضحّي بالمصالح العامة من أجل مصلحته. والقرآن يصرح بأن مثل هؤلاء ليسوا مؤمنين.
ذكرنا من قبل أن الإيمان يجب أن يكون مقرونًا بالالتزام، وإن لم يكن مقرونًا بالالتزام العملي، أو بالعمل الصالح بالتعبير القرآني، فلا يكون ذلك الإيمان منتجًا لا على مستوى الفرد ولا على مستوى المجتمع. والحقيقة الأخرى أن هذا الإيمان لابد أن يكون ثابتًا ومستمرًا لا أن يدور حول محور المصالح الذاتية التي أسميناها العدوانية تفريقًا بينها وبين المصلحة المشروعة الطبيعية.
المؤمن من التزم بأحكام الله جميعها وبصورة دائمة ومستمرة في حياته. والإيمان بالرسالة أن يكون ملتزمًا بسيرة رسول الله(ص)، لا أن يظهر عليه حماس الالتزام في ساعة الرخاء، ثم يغيّر المسير في ساعة المهام الصعبة، لا أن يكون «أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة».
ولقد ذمّ الله سبحانه وتعالى اليهود الذين أخذ سبحانه ميثاقهم: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِیَارِكُمْ) ولكن (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِیقًا مِّنكُم مِّن دِیَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَیْهِم بِالإِثْمِ وَ الْعُدوَانِ) هذا التناقض في المواقف يذمّه القرآن ويقول:
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن یَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْیٌ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ یَوْمَ الْقِیَامَةِ یُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وفي أحاديث أئمة أهل البيت كثير من مثل هذا التأكيد، وخاصة في باب أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
معاوية بن أبي سفيان كان يلجأ إلى المصحف متى ما اقتضت مصلحته ذلك، وكلكم تعرفون قضية رفع المصاحف على الرماح في صفين، بل كان أيضًا يستخدم فرائض الدين مصلحيًا ويؤم الناس في الصلاة!، وأكثر من ذلك كان لا يأبى مصلحيًا أن يذكر فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، ‌فيطلب الوافد عليه الأمان فيما إذا ذكر هذه الخصال، فيعطيه الأمان،‌ ويبدأ الوافد بذكر فضائل الإمام ومعاوية يؤيده!! يريد بذلك أن يستقطب عواطف الجماهير الموالية لأمير المؤمنين.
أما حين يرى أحكام الدين لا تتناسب مع مصالحه العدوانية، فإنه يضع كل قيم الإسلام من عدالة اجتماعية واقتصادية وسياسية وتنمية فكرية للمجتمع وراء ظهره ويعرض عنها الإعراض كله.
وأنا أضرب المثال بمعاوية لكي نقوّم أنفسنا نحن بهذا المحك، ونعرف ما إذا كنا نحن أيضًا نقبل من الدين ما يتفق مع أهوائنا ونرفض ما خالف مصالحنا الضيقة التي أسميناها المصالح العدوانية.
الدين الذي جاء به رسول الله(ص) هو دين التعليم والتزكية وتنمية العقول والنفوس: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَ یُزَكِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ). إنه الدين الذي يكافح ما كان عَقَبةً أمام العقل والفهم والوعي. هذا هو الدين.. إنه الصحوة والوعي والفهم والتعقّل لا كما قال بعضهم: «الدين أفيون الشعوب». تخدير الناس وإبعادهم عن قواهم العقلية وعن وعيهم ليس من الدين بشيء.
أميرالمؤمنين علي(ع) يقول في حديثه عن هدف بعثة الأنبياء(ع): «ويثيروا لهم دفائن العقول» أي تفجير الطاقات الفكرية، وإزالة ماران عليها من ركام العصبيات والأوهام وآثار الاضطهاد. وكل ما كان عائقًا أمام هذا الهدف فهو يتعارض مع هدف الأنبياء.
خطاب الأنبياء يتجه إلى فكر الناس وعقولهم، وكلّما كان فكر المخاطبين وعقلهم أدقّ كان قبولهم لهذا الخطاب أكثر. ومهمة الأنبياء رفع المستوى الفكري والعقلي للناس، وكل ما يحول دون أداء هذه المهمة فهو يتعارض مع الدين. وأولئك الذين يريدون أن يسيروا في خط متعارض مع الدين يعمدون إلى تجهيل الناس وتحميقهم، وإبعادهم عن مصادر معرفتهم ووعيهم.
وفي حوار بين ابن عباس ومعاوية بشأن نهي معاوية عن التعامل مع القرآن، يقول ابن عباس:
أتنهانا عن قراءة القرآن؟ معاوية: لا. ابن عباس: أفتنهانا عن تأويله؟ معاوية: نعم. ويعود ابن عباس للسؤال مستنكرًا: نقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟ يجيبه معاوية بما يوحي بأنّ ابن عباس كان يقدّم القرآن بما يخالف هوى معاوية وهدفه في التخدير والتحميق: سل عن ذلك مَنْ يتأوّله على غير ما يتأوله أنت وأهل بيتك! يجيبه ابن عباس: إنما أُنزل القرآن على أهل بيتي. أنسأل عنه آل أبي سفيان؟!!
لا يريد معاوية أن يرتفع الناس في مستوى فكرهم وفهمهم. ذلك لكي يحكم كيف شاء، ويفعل ما شاء، ولذلك نرى في قائمة أعماله قتل الصالحين من أمثال حُجر بن عديو رُشيد الهجَري، وتعامله الفظيع مع أمثال ميثم التمار. وكل ذلك من أجل أن يحول دون تقدم المسيرة الإسلامية، ودون نموّ هذا الوليد (الإسلام) الذي لم يمض من عمره أكثر من عشرين سنة. كان يريد إيقاف المسيرة، بل أنْ تتخلّف هذه المسيرة.. ومحاولته لتخلّف المسيرة كانت تتلخّص في مسخ أخلاق الناس، وهو داء ما كان بالإمكان معالجته بسهولة. لقد حاول الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز بعد ثلاثين سنة من ذلك أن يصلح الأمور، فلم يستطع، ولم يبقوه في منصب الخلافة أكثر من سنتين، إذ قتلوه مسمومًا. تروى الأعاجيب عمّا أصيبت به الأمة عامة، وخاصة الشام التي كانت تحت سيطرة معاوية مباشرة من جهل.
أذكر على سبيل المثال ــ وهو غيض من فيض ــ أن عبد الملك بن مروان أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي لمحاربة عبدالله بن الزبير، وكان عبدالله قد تحصّن في البيت الحرام، واستطاع الحجاج أن يستولي على البيت الحرام وعلى جبل أبو قُبيس المحاذي للحرم، فكتب إلى الخليفة: أننا استعطنا بحمد الله أن نستولي على جبل أبو قبيس. فنودي بالصلاة جامعة في دمشق، واعتلى الخطيب المنبر وأعلن أن الحجاج قائد الخليفة قد استولى على أبو قبيس. فتعالت الأصوات في المسجد مشككة في الخبر وكلها تقول: لا، لا نقبل هذا الخبر إلاّ أن تأتونا بأبو قبيس الرافضي مخفورًا، لنراه بأم أعيننا. هؤلاء تصوروا بأن أبو قبيس رجل رافضي في مكة!! هكذا كان مستوى معلومات الناس وإدراكهم.
من هو المسؤول عن هذا الهبوط في مستوى وعي الناس؟! هل كان وعاظ السلاطين من أمثال شريح القاضي؟! الواقع أن الذي استقطب هؤلاء المأجورين ليتخذوا مواقف معادية لمسيرة القرآن هو معاوية. فالمسؤولية بالتالي تقع على عاتق هؤلاء من بني أمية وبني العباس وغيرهم من الذين يتظاهر ون أحيانًا بالدين!
وأعود فأقول إن القرآن لا يعتبر أولئك الذين يتأرجحون بين الإيمان والإعراض عن الإيمان، لا يعتبرهم مؤمنين، ‌وفي حياتنا الحاضرة أمثال هؤلاء كثير، فالإيمان ما وَقَر في القلب وصدّقه العمل: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…). كل ما وعده الله سبحانه وتعالى للمؤمنين إنما هو للمؤمنين الذين يقرنون إيمانهم بالعمل الصالح بشكل متواصل وبثبات على طريق المبدأ، وإذا لم نر في إيماننا تحقيقًا لما وعده الله للمؤمنين، فإن ذلك يعود إلى أن هذا الإيمان ليس من النوع الذي يتحقق فيه ما وعد الله المؤمنين.
أعود إلى ما أردنا الوقوف عنده من آيات:
(لَقَدْ أَنزَلْنَا آیَاتٍ مُّبَیِّنَاتٍ) والنص يؤكد أن آيات القرآن مبينات، وهذا ردّ على أولئك الذين يَحرمون أنفسهم من فهم القرآن، فهم يصدّون عن هذا التبيين.
(وَاللهُ یَهْدِی مَن یَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ) وما معنى: «يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»؟ هل يعني أنه سبحانه يريد الهداية لفرد ولا يريدها لفرد آخر؟! هل تعني أن الفرد مسلوب الإرادة تجاه نيل الهداية الإلهية؟ كلا.. إرادة الله ومشيئته ــ في الأمور الاعتيادية ــ لا تظهر إلاّ في إطار العلل الطبيعية. لو قررت أنت أن تسير على طريق الهداية فإن الله سبحانه شاء أن تسير على هذا الطريق، وإذا تقاعستَ أنت عن المسير في طريق الهداية وأوصدت أبواب الفهم والإدراك عليك، فإن الله أراد أن لا تفهم ولا تدرك. إذا وفّرت أنتَ العلل والمقدمات بإرادتك للحصول على المعلول،‌ فإن الله تعالى شاء ذلك. وإذا أنت لم تفعل ذلك، فمن الواضح أن الله لا يريد ذلك، لا أنّ مشيئة الله اقتضت أن لا تريد ذلك. أنت في إرادتك مختار، ومعنى: لم يشأ الله ذلك هو أن العلّة اللازمة غير متوفّرة.
ولماذا نقول: إن الله لم يرد ذلك حين تكون العلّه غير محققة. ذلك لأن الله سبحانه هو موجد العلل وهو خالق الخواص في العلل.‌ إذا مددت يدك إلى نار مشتعلة، فإنها تحترق، والله شاء أن تحترق. وإذا أبعدت يدك عن النار فإنها لا تحترق، وشاء الله أن لا تحترق. فالاحتراق يحدث حين تتوفر علته الطبيعية.‌ وعدم الاحتراق يحدث حين لم تتوفر العلة الطبيعية، كأن لم تمدّ يدك إلى النار، أو كانت اليد مبتلة، أو كانت النار خافتة. ولماذا ننسب الظواهر المرتبطة بعلتها إلى الله.‌ ذلك لأن الله سبحانه هو خالق العلل. وهذا معنى «من يشاء» في مواضع القرآن كلها. ولقد فصلنا القول في ذلك في مناسبات أخرى، ونكتفي هنا بالإشارة إليه.
(وَیَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ یَتَوَلَّى فَرِیقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ) هؤلاء يدّعون الإيمان بالله وبالرسول، ويدّعون الطاعة، لكن فريقًا منهم يعرض عن ذلك. وليس الحديث هنا عن الكفار ولا عن المرتدين الذين يخرجون فجأة من دائرة الإسلام، لا، إنه حديث عن هؤلاء المؤمنين العاديين في المجتمعات الإسلامية. ثم يقول سبحانه:
(وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِینَ) بكل وضوح وصراحة ليس هؤلاء بمؤمنين.
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِیَحْكُمَ بَیْنَهُمْ إِذَا فَرِیقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ) ظاهر الآية يدلّ على حكم القضاء، فهؤلاء يأبون أن يذهبوا إلى الرسول ليقضي بينهم. غير أن مضمون الآية عام، ‌لا ينحصر الأمر بحكم القضاء، ويشمل الإعراض عن أوامر الرسول(ص) في غير مواضع القضاء أيضًا.
(وَإِن یَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ یَأْتُوا إِلَیْهِ مُذْعِنِینَ) أي ينصاعون إلى الله ورسوله حين يكون الأمر لصالحهم، وحين يحتملون أن يكون الحكم بضررهم فإنهم يعرضون عن الدين. والقرآن الكريم يستجوب هؤلاء، لماذا يعرضون عن الدين حين يكون الحكم بضررهم؟ يعود ذلك إلى ثلاثة أسباب:
(أَفِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) هؤلاء إما أن يكونوا مرضى القلوب. ومصابين بمرض النفاق، أو مرض الأهواء، أو مرض الجهل والغرور. أو أن يكون الأمر أكبر من ذلك؟!
(أَمِ ارْتَابُوا) فهؤلاء قد يكونون قد شكّوا في الدين أصلًا. إذا لم يكونوا شاكين في الدين، فلماذا يأتون إلى الدين مذعنين حين يكون لصالحهم، ويعرضون عنه حين لا يكون كذلك؟!
(أَمْ یَخَافُونَ أَن یَحِیفَ اللهُ عَلَیْهِمْ وَ رَسُولُهُ) لعل هؤلاء يخافون أن يظلمهم الله ورسوله!! وهذا أفظع من الشك. إنه عين الكفر. هذا الذي يظن أنه سيتعرض إلى ظلم الله ورسوله فإنه لا يعرف الله ولا يعرف رسوله.
(بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إن هؤلاء الذين ينسبون الظلم إلى الله ورسوله هم الظالمون. هؤلاء يظلمون أنفسهم ويظلمون الحقيقة ويظلمون الناس.
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِینَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِیَحْكُمَ بَیْنَهُمْ أَن یَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وسمعنا تعني فهمنا وأدركنا. وفي كثير من المواضع القرآنية السمع يعني الفهم والاستيعاب مثل قوله تعالى: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِیدٌ) وهؤلاء هم المفلحون أي إنهم نالوا ما يطلبون. والفلاح يعني النجاح، ونيل المطلوب. (وَمَن یُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَخْشَ اللهَ وَ یَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) والفوز يعني بلوغ المطلوب وهو الفلاح.
وبعد ذلك بآيتين نصل إلى قوله تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُم فِی الْأَرْض) هذا الوعد الإلهي للمؤمنين الملتزمين، أنه سبحانه يجعل العالَمَ يستظل بمدرستهم وفكرهم ويبدّل خوفهم إلى أمن بعدما تجرّعوه من عذاب وقهر. يعبدونه سبحانه ويزيل من طريقهم الآلهة الكاذبة.
هناك من يفهم الآية بشكل يتناسب مع جموده الفكري فيقول إن هذا الآية تختص بزمان الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام). لا شك أن تحقق مصداق هذه الآية بشكل كامل يكون على عهد المهدي المنتظر، ولكن ما الدلالة على أنها مختصة بعصر ظهور المهدي؟! وأية رواية تدل على ذلك؟ ألم تتحقق هذه الآية للمؤمنين في صدر الإسلام؟! هؤلاء المؤمنون جاؤوا المدينة وأقاموا تلك الحكومة. وبلال الذي كان يتعرض لأقسى أنواع الاضطهاد حين كان ينطق بالتوحيد، ها هو الآن يرفع صوته في الأذان بالتهليل والتكبير.
هؤلاء الذين كانوا مضطرين أن يسجدوا ليل نهار لأصنام غير بشرية وبشرية ولأهواء أنفسهم وشهواتهم، هؤلاء الذين كان لهم هذا العدد الكبير من الشركاء مع الله، هؤلاء جاؤوا إلى تلك الأرض ليعيشوا في أمن وسلام ووئام دون أن يخشوا أحدًا. هذه الآية قد تحققت مرة هناك ويمكن أن تتحقق آلاف المرات الأخرى بشرط أن يتحقق وجود (الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ولقد رأيتُ من يفسّر «في الأرض» بمعنى في أرض الجزيرة العربية. وهو تفسير يثير الشك في هدف المفسّر، هل إن الإسلام جاء لإقليم معين، أليس هو رحمة للعالمين؟!
وقوله سبحانه: (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ) يعني أن سنة الله في الكون كانت نصرة المؤمنين وتمكينهم من الأرض على مرّ التاريخ، وليس كما يظن البعض أن الفئة المؤمنة كانت مقهورة مظلومة مهزومة في التاريخ. ولقد ذكرت في محاضرة سابقة أن الدين كان في نجاح مستمر منذ أن ظهر على ظهر الأرض حتى يومنا هذا. كانت قِيَمُه في تقدم مطّرد ولم تكن له هزيمة على الإطلاق. وهذا ما أثبتّه في تلك المحاضرة.
(وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضَى) هذا الدين الذي ارتضاه الله للمؤمنين، هذا الدين الذي يشتمل على شؤون الدنيا والآخرة ويلبي احتياجات الجسم والروح سوف يكون متمكنًا ومستقرًا ومهيمنًا.
(وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) والأمن الذي يوفره الله لهم ليس للبطر والانتجاع والارتخاء، بل لتتوفر الفرصة من أجل قطع المزيد من الخطوات على طريق الكمال الإنساني.. على طريق عبودية الله:
(یَعْبُدُونَنِی لَا یُشْرِكُونَ بِی شَیْئًا). هذا هو الذي يتحقق في ظل الأمن.
ثم تذكّر الآية أن الذين يعودون إلى حظيرة الشرك هم الفاسقون: (وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أي الخارجون عن دائرة الإيمان.
والحمدُ لله ربّ العالمين.