الجلسة الرابعة و العشرون: وشائج الأمة الإسلامية

25 رمضان المبارك 1394 هجرية – 1353/7/20 هجرية شمسية

(یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْیَهُودَ وَ النَّصَارَى أَوْلِیَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ # فَتَرَى الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ یُسَارِعُونَ فِیهِمْ یَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِیبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن یَأْتِیَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَیُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِی أَنْفُسِهِمْ نَادِمِینَ)(المائده/ 51-52)

ذكرنا في الجلسة السابقة أن الولاية بالمعنى القرآني تعني التلاحم والارتباط ورصّ الصفوف. كما تعني الحذر من الذوبان والتصدّع والهزيمة أمام العوامل الخارجية.
إذن للولاية بُعدان داخلي يرتبط بالأمة الإسلامية في داخل مجتمعاتها وبُعد خارجي يرتبط بعلاقة الأمة الإسلامية بالمجتمعات الأخرى.
على الصعيد الداخلي لابدّ من رصّ الصفوف والحذر من التفرّق. ولو حدث اختلاف بين فريقين داخل الأمة فالقرآن يأمر بالإسراع في الإصلاح بينهما. ولو أصرّ أحد الفريقين في لجاجته وتعنّته ورفض الرضوخ إلى كلمة الحقّ فعلى العالم الإسلامي أن يعيد هذا الفريق إلى صوابه ولو بالقوّة والقتال.
يقول القرآن الكريم: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّى تَفِیءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ). هذا أمر الله سبحانه من أجل صيانة وحدة الأمة الإسلامية.
أما في بعد علاقات الأمة الإسلامية بغيرها، فلا بد من تنظيمها بصورة تحافظ على استقلال الأمة وصيانة شخصيتها وكرامتها وهويتها. وكلّ ارتباط خارجي يسيء إلى هذه المحافظة فهو مرفوض.
في الخبر أن العالم الإسلامي كان يستورد النقود المسكوكة في عهد الإمام الباقر أو الصادق من الروم. ثم حدث أن هدّد حاكم الروم بقطع هذا التعاون.
وهنا تدخلّ الإمام ــ وهذا من الاستثناءات في مثل هذا التدخّل ــ فوجّه إلى طريقة صناعة المسكوكات النقدية. كي لا يتعرض المسلمون إلى ضغط خارجي.
ارتباط الأمة الإسلامية بغيرها يجب أن يكون إذن في إطار يحافظ على مكانتها المرموقة وهويتها وشخصيتها الرسالية. لا يجوز أن ترتبط بالعالم الخارجي ارتباطًا يفسح للأجانب فرصة الاستغلال والاستثمار، كالذي حدث في إيران في حادثة التنباك وشركة رجي. وكالذي حدث في الهند أيام الإمبراطورية المغولية في تأسيس شركة الهند الشرقية، وما جرّت هذه الشركة من بلاء على شبه القارة الهندية. لا يجوز للأمة الإسلامية إقامة مثل هذه العلاقات.
هذا لا يعني طبعًا الانعزال عن العالم الخارجي، لابد من إقامة علاقات سياسية واقتصادية وتجارية وديبلوماسية، بل يعني أن لا تكون لنا معهم ولاية ولا علاقات نفسح المجال أمام التغلغل وأمام السبيل للتغلغل والنفوذ والهيمنة. هذا على صعيد العلاقات الخارجية، أما العلاقات داخل الدائرة الإسلامية، فلابدّ أن تتجه عناصر المجتمع جميعها نحو هدف واحد وتتبع سبيلًا واحدًا.
هذه هي الولاية بالمفهوم القرآني، وهذه هي الولاية في مدرسة آل بيت رسول الله، وهذا هو سبب ما نعتقده بأن أوامر الإمام نافذة في كل شؤون الحياة الاجتماعية، لأن وحدة الهدف ووحدة الخطى تتطلب قوة متمركزة في المجتمع الإسلامي ترتبط بها القوى الداخلية جميعًا وتسير على خطى ما تصدره من أوامر. لابد من قوة متمركزة لها إلمام بجميع مصالح المجتمع ومفاسده كي تراقب بدقة مجريات الأحداث، وتضع كل شيء في نصابه. وللتشبيه نقول: خذوا بنظر الاعتبار معملا لصناعة السجاد. عدد من العاملين يشتغلون في حياكة سجادة واحدة، وهؤلاء العاملون بحاجة إلى مَن ينسّق حركة أعمالهم كي يخرج العمل منسقًا تابعًا لطرح موحّد في الحياكة، وإذا كان كل عامل يحوك لنفسه دون تنسيق مع الآخرين فلا يخرج العمل إلاّ مشوّهًا.
حين ترون السجادة منظمة تنظيمًا دقيقًا في النقوش والتطريز فاعلموا أن العاملين عليها يتبعون مشرفًا واحدًا ينسق العمل بينهم.
إذا أُريد للمجتمع أن تتحرك طاقاته وتتجه نحو هدف واحد وأن لا تتبدد هذه الطاقات، بل تحتشد لخدمة مصالح البشرية، وأن تكون صفًا واحدًا أمام صفوف الخصم فلابدّ من قدرة متمركزة ومن قلب نابض لهذا الجسم الاجتماعي. ومن الطبيعي أن تكون هذه القوة المتمركزة الموجهة ذات خصائص معينة كأن تكون على درجة عالية من الوعي والعلم وقدرة اتخاذ القرار وعدم الخشية من غير الله، والاستعداد للتضحية حينما يتطلب الأمر لذلك. وما اسم هذه القوّة؟ إنها الإمام.
والإمام هو الحاكم والقائد الذي يعينه الله سبحانه. وما معنى أن يكون معينًا من قبل الله؟ إما أن يكون معينًا بالاسم كما في تعيين النبي إمامًا. يقول سبحانه لإبراهيم: (إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أو في تعيين أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أو أن يكون معينًا بالخصائص كما ورد عن الإمام الحسن العسكري: «فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه حافظًا لدينه مخالفًا لهواه مطيعًا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه». والنصّ يعين الإمام بالخصائص، فهو الفقيه بالشروط المذكورة، وهو الذي يقود مسيرة المجتمع نحو الهدف المنشود.
الولاية بالمفهوم القرآني تستوجب ــ إذن ــ وجود الإمام. وإذا أرادت الأمة الإسلامية أن تبقى حية وموفقة وقوية فلابد أن تكون مرتبطة ارتباطًا مستحكمًا وثيقًا بهذا القلب المتحرك الخافق. وأي ارتباط؟ الارتباط الفكري والارتباط العملي. ومن هنا نفهم معنى ولاية علي بن أبي طالب. ومن هنا نفهم الحديث: «ولاية علي بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي» ومن الطبيعي أن يكون انتهاج طريقِ عليٍّ فكريًا وعمليًا حصنًا يقي الإنسان من عذاب الله.
هذا الذي يقول ليس من حقنا فهم القرآن فإنه لا يوالي عليًا، لا فكريًا ولا عمليًا، لأن الإمام يقول: «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يَغُش والهادي الذي لا يُضلّ والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالَسَ هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان بزيادة في هدى أو نقصان من عمىً». الإمام يدعو الناس إلى القرآن، وهذا الرجل الذي يدّعي ولاية علي يقول: لا يمكن أن نفهم القرآن!! أهذا يوالي عليًا؟! كلًا. عليّ يضحّي بكل وجوده في سبيل الله، وهذا ليس على استعداد أن يضحي بشيء من ماله أو وقته أو مكانته الاجتماعية أو حتى راحته في سبيل الله. أهذه ولاية علي بن أبي طالب؟! يستطيع أن يدعي ولاية الإمام من كان ارتباطه وثيقًا به فكريًا وعمليًا.
هذا الذي ذكرته هو المعنى القرآني للولاية. وما أقف عنده من آيات سورة المائدة يبين الجانب الإيجابي من الولاية وهو الارتباط الداخلي، والجانب السلبي من الولاية وهو قطع الطريق أمام التدخل الأجنبي، وكذلك البعد الآخر للولاية وهو الارتباط والاتصال بوليّ وليّ الله، أي بالقلب.. بالحاكم الإمام.
(یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْیَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِیَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ).
فهؤلاء اليهود والنصارى مرتبطون ويكوّنون جبهة واحدة وإن تعدّدت كتلهم، فهم يجتمعون على معاداتكم. والارتباط بهم يجعلكم في جبهتهم.
(فَتَرَى الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ یُسَارِعُونَ فِیهِمْ یَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِیبَنَا دَآئِرَةٌ) مرضى القلوب يتوجهون بل يسارعون للالتحاق بهم، مرددين نغمة طالما سمعناها من المهزومين، يقولون نخشى أن يصيبنا سوء، نخشى أن تحدث لنا مشكلة إن لم نلحق بهم، يجيبهم الله:
(فَعَسَى اللهُ أَن یَأْتِیَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَیُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِی أَنْفُسِهِمْ نَادِمِینَ).
عسى أن يكتب الله للمؤمنين الفتح والنصر أو يحدث بعد ذلك أمرًا لصالحهم، فيندم هؤلاء الذين لم يلتحقوا بصفوف المؤمنين، وراهنوا على جبهة أعداء ربّ العالمين.
(وَیَقُولُ الَّذِینَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِینَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَیْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) بعد أن ينفضح أمر هؤلاء الذين ركنوا للعدو، يستغرب المؤمنون، وتصيبهم الدهشة من هؤلاء الذين كانوا يقسمون أنهم في جبهة المؤمنين، وأنهم معكم قلبًا وقالبًا، بعد ذلك تبين أنهم ينافقون، وأن قلوبهم مريضة. عندئذ يتبين خواء أفعالهم، ويصابون بالخسران.
هذا على صعيد العلاقات الخارجية، أما على صعيد الارتباط الداخلي يقول سبحانه:
(یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَن یَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ).
إذا تخلّيتم عن دين الله وأدرتم ظهوركم للمشروع الإلهي، فإن هذه الأمانة سوف تصل إلى هدفها بيد أناس آخرين. سوف يأتي الله بقوم يقيمون المجتمع المطلوب حيث تتميز فيه العلاقات الداخلية والخارجية بالصورة التي تذكرها الآية: (یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ) علاقتهم بالله سبحانه علاقة حبّ. وهذا الحبّ ليس ادعاء باللسان، بل هو نهج عملي يتمثل بالدرجة الأولى في اتباع النبي: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللهُ).
هذه إحدى الخصائص، والأخرى:
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِینَ) والآية تركز على هذه العلاقة الداخلية بين أحباب الله. إنهم متواضعون أمام المؤمنين. غير متعالين عليهم. شعبيون يعيشون مع الناس وغير منزوين في أبراج عاجية. لكنهم أمام الكافرين أعزّة، مرفوعو الرأس لا ينفذ إلى صفوفهم الكفار ولا يخترقون تجمعهم.
(یُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) هؤلاء يجاهدون بإخلاص في سبيل الله، ولا يلتفتون للوم اللائمين، ولا يهتمون بالمرجفين.
الآية التالية تتناول ارتباط أجزاء المجتمع الإسلامي بالقلب، بالقوة المحورية، بالإمام وما أجمل الانسجام بين الآيات!!
(إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلَاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
الولي الذي يستقطب نشاطات المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية وتُستلهم منه هذه النشاطات هو الله سبحانه، لكن الحضور الإلهي يتجلّى في النبي. والنبي ليس بباق (إِنَّكَ مَیِّتٌ وَإِنَّهُم مَّیِّتُونَ) فمن هذا المحور بعد الرسول؟
(وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلَاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) المفسرون قرروا أن الواو في «وهم راكعون» هي واو حالية، والآية تريد الإمام علي بن أبي طالب كما في أسباب النزول. قال بعضهم إنها تريد مطلق المؤمنين. ولو افترضنا ذلك فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رمز لهذا المعنى العام، والنموذج الأمثل الذي يتجلّى فيه هذا المعنى.
ولابد هنا من التأكيد على أن حديثنا عن الإمام والولاية يقوم على فكر مدرسة أهل البيت. ونحن نوصي المسلمين عامة والشيعة خاصة بتفهّم طبيعة هذه المدرسة الإسلامية الأصيلة. لكن هذا لا يعني أننا نرفض المدارس الإسلامية الأخرى، إذ لا يجوز إثارة الاختلافات الفكرية والمذهبية. ونحن إذ يدور حديثنا في إطار التشيع فلاعتقادنا أن الحديث عن التشيع هو الحديث عن الإسلام، لأن فهم الشيعة للقرآن منطقي وعادل وعقلائي. نحن في الواقع نتناول الفكر الإسلامي، نريد أن نفهم الإسلام، بنظرة مدرسة أهل البيت، ولا نريد إثارة خلاف بين السنة والشيعة، إذ كلنا إخوة، ونحن أمام عدوّ مشترك واحد، ولا يجوز إثارة الخلاف بين أبناء الأمة الواحدة، فمثل هذا العمل حرام في رأينا.
بعد ذلك نقول، لو راعينا الأبعاد الثلاثة من الولاية: حفظ التماسك الداخلي، وقطع السبيل أمام التدخل الخارجي، وحفظ الارتباط الدائم والعميق مع قلب الأمة أعني الإمام والقائد، فما الذي يحصل؟ تقول الآية: (وَمَن یَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) إنها من ضروريات النصر والنجاح والفلاح.
والحمد لله رب العالمين